الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قُلْنَا احمل فِيهَا} أي في السفينة: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} قال المفسرون أراد بالزوجين: اثنين ذكرًا وأنثى، وقال أهل المعاني: كل اثنين لا يستغني أحدهما عن صاحبه، فإن العرب تسمي كل واحد منهما زوجًا، يقال له: زوجا نعال إذا كانت له نعلان وكذلك عنده زوجا حمام، وعليه زوجا قيود، قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45]، وقال بعضهم: أراد بالزوجين الضربين والصنفين وكل ضرب يدعى زوج، قال الأعشى:
أراد كل ضرب ولون. وقال لبيد: أي ألوان وأصناف، وقرأ حفص هاهنا وفي سورة المؤمنين: {مِن كُلٍّ} بالتنوين أي من كل صنف، وجعل اثنين على التأكيد.{وَأَهْلَكَ} أي واحمل أهلك ومالك وعيالك: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} بالهلاك يعني امرأته راحلة وابنه كنعان.{وَمَنْ آمَنَ} يعني واحمل من آمن بك، قال الله تعالى: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} واختلفوا في عددهم، فقال قتادة والحكم وابن جريج ومحمد بن كعب القرضي: لم يكن في السفينة إلاّ نوح وامرأته وثلاثة بنيه، سام وحام ويافث أخوة كنعان وزوجاتهم وَرَحْلِهم فجميعهم ثمانية، فأصاب حام امرأته في السفينة فدعا الله نوحٌ أن يغير نطفته فجاء بالسودان. وقال الأعمش: كانوا سبعة: نوح وثلاث كنائن وثلاثة بنين له. وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم: نوح وبنوه حام وسام ويافث وستة أناس ممن كان آمن معه وأزواجهم جميعًا.وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وبنيه الثلاثة ونساءهم، فكان الجميع ثمانية وسبعين نفسًا، نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساء.قال ابن عباس: كان في سفينة نوح ثمانون إنسانًا أحدهم جرهم.قال مقاتل: وحمل نوح معه جسد آدم وجعله معترضًا بين الرجال والنساء، وحمل نوح جميع الدواب من الغنم والوحوش والطير وفرق فيما بينها.قال ابن عباس: أول ما حمل نوح في السفينة من الدواب الأوزة، وآخر ما حمل الحمار، فلمّا دخل الحمار ودخل صدره تعلق إبليس بذنبه فلم يستقل رجلاه فجعل نوح يقول له: ادخل فينهض فلا يمشي، حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال له نوح: ما أدخلك عليّ يا عدو الله؟ فقال له: ألم تقل ادخل وان كان الشيطان معك، قال نوح: اخرج عني يا عدو الله، قال: ما لك بدّ من أن تحملني معك، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك.وفي تفسير مالك بن إبراهيم الهروي الذي أخبرني بالأسناد إلى أبي القاسم والحسن بن محمد ببعضه قراءةً وأجاز لي بالباقي في غير مرة، قال يحدثنا أبو العباس محمد بن الحسن الهروي، قال: حدثنا جابر بن عبد الله عنه أن الحية والعقرب أتيا نوحًا فقالتا: احملنا، فقال نوح: إنكما سبب الضرّ والبلايا والأوجاع فلا أحملكما، فقالتا: احملنا فنحن نضمن لك بأن لا نضر أحدًا ذكرك، فمن قرأ حين خاف ضرّتهما: {سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين} [الصافات: 79-81] ما ضرّتاه.{وَقَالَ} نوح لهم: {اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها} قرأ أبو رجاء العطاردي: مُجرِاها ومُرسِاها بضم الميمين وكسر الراء والسين وهي قراءة عبدالله.قال ابن عباس: مجريها حيث تجري ومرساها حيث ترسو، أي تحسر في الماء.وقرأ محمد بن محيصن بفتح الميمين وهما مصدران، يعني أن الله تعالى بيده جريها ورسوّها أي ثبوتها، جرى يجري جريًا ومجرى، ورسا يرسو رسوًّا ومُرسى، مثل ذهب مذهبًا وضرب مضربًا. قال امرؤ القيس: أي: قتلي.وقرأ الباقون بضم الميمين، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، ومعناه: بسم الله إجراؤها وإرساؤها، كقوله تعالى: {أَنزِلْنِي مُنزَلًا مُّبَارَكًا} [المؤمنون: 29]: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] بمعنى الإنزال والإدخال والإخراج.{إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال الضحاك: كان نوح إذا أراد أن يرسو قال: بسم الله، فرست، وإذا أراد أن تجري قال: بسم الله، فجرت.{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال ونادى نُوحٌ ابنه} كنعان وكان عنيدًا وقيل وكان كافرًا.{وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} عنه لم يركب معه الفلك.{يا بني اركب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} فتهلك، قال له ابنه: {سآوي} سأصير وأرجع: {إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي} يمنعني: {مِنَ الماء} ومنه عصام القربة الذي [يربط] رأسها فيمنع الماء أن يسيل منها.{قَالَ} نوح: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} عذاب الله إلاّ من رحمناه، وأنقذناه منه، ومن في محل رفع، وقيل: في محل النصب ومعناه لا معصوم اليوم من أمر الله إلاّ من رحمه الله، كقوله تعالى: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] [القارعة: 7] و: {مَّاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] قال الشاعر: أي مفتونًا.{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ} فصار: {مِنَ المغرقين وَقِيلَ} بعدما تناهى أمر الطوفان: {يا أرض ابلعي} أي اشربي: {مَاءَكِ وياسماء أَقْلِعِي} امسكي: {وَغِيضَ الماء} فذهب ونقص ومصدره الغيض والغيوض.{وَقُضِيَ الأمر} أي وفرغ من العذاب: {واستوت} يعني السفينة استقرّت ورست وحلّت: {عَلَى الجودي} وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل، قال مجاهد: تشامخت الجبال وتطاولت لئلاّ ينالها الماء فعلا الماء فوقها خمسة عشر ذراعًا وتواضع الجودي وتطامن لأمر ربّه فلم يغرق، فأرسيت السفينة عليه.{وَقِيلَ بُعْدًا} هلاكًا: {لِّلْقَوْمِ الظالمين} الكافرين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في أوّل يوم من رجب وفي بعض الأخبار: لعشر مضت من رجب ركب نوح في السفينة فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر، ومرّت بالبيت فطاف به سبعًا وقد رفعه الله من الغرق، وأرسيت السفينة على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح وأمر جميع من معه من الوحوش والدواب فصاموا شكرًا لله عزّ وجلّ».اهـ.
أو تجهلون بلقاء ربكم. أو تجهلون أنهم خير منكم {مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ} من يمنعني من انتقامه {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} وكانوا يسألونه أن يطردهم ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء {أَعْلَمُ الْغَيْبَ} معطوف على {عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ} أي لا أقول عندي خزائن اللّه، ولا أقول: أنا أعلم الغيب. ومعناه: لا أقول لكم: عندي خزائن اللّه فأدعى فضلا عليكم في الغنى، حتى تجحدوا فضلى بقولكم {وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ} ولا أدعى علم الغيب حتى تنسبونى إلى الكذب والافتراء، أو حتى أطلع على ما في نفوس أتباعى وضمائر قلوبهم {وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} حتى تقولوا لي ما أنت إلا بشر مثلنا، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن اللّه لن يؤتيهم خيرًا في الدنيا والآخرة لهوانهم عليه، كما تقولون، مساعدة لكم ونزولا على هواكم {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} إن قلت شيئًا من ذلك، والازدراء: افتعال من زرى عليه إذا عابه. وأزرى به: قصر به، يقال ازدرته عينه، واقتحمته عينه.{جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا} معناه: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته، كقولك: جاد فلان فأكثر وأطاب فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المعجل.
والمعنى: فلا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك ومعاداتك، فقد حان وقت الانتقام لك منهم بِأَعْيُنِنا في موضع الحال، بمعنى: اصنعها محفوظا، وحقيقته: ملتبسًا بأعيننا، كأن للّه معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب، وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. ووحينا: وأنا نوحى إليك ونلهمك كيف تصنع. عن ابن عباس رضي الله عنه: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى اللّه إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر {وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك {إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} إنهم محكوم عليهم بالإغراق، وقد وجب ذلك وقضى به القضاء وجف القلم، فلا سبيل إلى كفه، كقوله: {يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}.
|